ينظر الحاج محمد إلى صورته القديمة، ويقول: تذكرني بشبابي، وبأهلي ومقدار حبي لهم، حتى خرجنا من فلسطين وتوفوا، أمي كانت تحب البقاء بجانبي، وعندما جئنا من عين الحلوة الى هنا (وادي الزينة) كان عندي أخوة 3 غيري وما كانت تقبل تناول الفطور إلا معي انا، ولا تريد أسكن ببيت إلا بجانبي وعشنا العمر كله مع بعضنا، ثم توفيت.
الرسالة المكتوبة على ظهر الصورة، هي: هدية من صديق لصديق، أهدي هذه الصورة إلى الأخ محمود أيوب تذكار لأجل المودة الخالصة (محمد جندل بريش بتاريخ 3/4/1974).
عندما يتذكر الإنسان الأيام الماضية يشعر بالحزن الشديد، نذكر أيام الشباب سواء كانت حلوة أو مرة. والحمد لله انا ومحمود أيوب كنا على صداقة ومودة على طول لم نختلف ابداً.
أذكر محمود أيوب جيداً، كنا أصدقاء لمدة 9 سنوات ومنها فترة الخدمة 4 سنوات. كنا نزور بعضنا كثيراً. أعرف بيتهم بسحماتا وننام عند بعضنا بالأيام، كان يأخذ خضرة من أرضي أنا، وأنا بعتبرها أرضه، كان يأتي الى الأرض ويأخذ الذي يريد من دون ان يطلب مني.
الخدمة لم تكن طبيعية عندما كنا بالناقورة، نحن قبل حزفنا بعكا بمدة سنتين، ثم إنتقلنا، ثم طلعنا بشرف وكرامة ونقلونا الناقورة مدة سنتين، وأنا طلعت وتركت الخدمة لوحدي وكان في عندنا ضابط قال لي إرجع والصفر البارودة وأنا بسامحك ووعدني بذبل ولكني لم أرض، ولا أراه (محمود) إلا بصيدا، كان يريد الذهاب للدكتور، كان مريضاً بفمه، كنت أنا ساكناً بعين الحلوة، وهو ذاهب ليتعالج بالجامعة، وقال لي سوف أرجع غداً، فقلت له سأنتظرك حتى تأتي، ولم يأتي، هذا كان أخر لقاء، لا أدري ما السبب، هل توفي في وقتها أم تأخر في الجامعة؟ لا أدري.
البصة بعد 64 سنة، وهي ما زالت بالذاكرة، أيام البصة من أشرف أيام حياتنا، وأحلى بلد بنظري، فهي بلدي. وأنا من الناس الذين كانوا مرتاحين، لي أرضي ورزقي، والبلد كلها (من ثلاث فئات)، شيعة وسنة ومسيحيين، المسيحيين من الكاثوليك والبروتستانت والروم ولا يوجد موارنة، وكان الناس مع بعضها مثل الأخوة ليس هناك تفرقة بين مسلم ولا مسيحي جامع واحد للإسلام (الشيعة والسنة مع بعض)، والكنائس كانوا إثنتين للروم وللكاثوليك.
البصة كان فيها طريق رئيسية إذا دخلتها من جهة الجنوب يوجد طريقان يتفرعان منها يميناً وشمالاً.
واحدة لحي المسلمين وواحدة لجهة المسيحية، ولكن إذا صار فرح كانوا يعزفوا بالطبل الكبير، يضرب عليه فيعرف أبناء البلد أنه في فرح. وبعد قليل كل البلد تعرف أن الفرح طن؟ ثم يبدأوا يهللون لمدة أسبوع، يوجد نقود كثيرة، والناس فرحانة، وتبدأ الدبكة والرقص، وليس هناك فرق بين مسيحي ومسلم، حتى لو اختلفوا نقول أطفال، عندما يتدخلوا الكبار، على طول يتم الصلح.
في قصة صارت معي زمان، كنت بقطر سنة 1958، سافرت بلاد كثيرة، أريد الدخول على السفارة ومعي أوراق أريد أن أختمها (أوقعها)، أوراق رسمية للبيت، كنت جالساً ووجدت صبيين من الباكستانية والهنود وأهل البلد، أكثر من 200 شخص، قلت لن أنتهي لشهر، فجاء شخص طبطب على ظهري، سلّم علي، فسألني، كنت أعرفه!! فقلت له: أنا أعرفك، ولكن لا أتذكر اسمك، ولكن على ما أعتقد أنت إبن كامل البولس (مسيحي)، فقال: صحيح، ولمن أي واحد نقلت لا أذكر، فقال لي أنا جورج، فسلمت عليه مرة ثانية، فسألني ماذا أريد، فقلت أريد توقيع أوراق، فأخذني لداخل السفارة، فهو كان يعمل تحت يد السفير، فجلست وضيفني ودخل وقّع لي الاوراق وانتهت معاملتي بعشر دقائق.
القرى حول البصة هي: الزيب قريبة من البصة والحميمة والنهر وأم الفرج، بداخل البلد، كان عنا دكتور إسمه زعرب، كبير بالعمر بتقديري 70 سنة، لا يوجد دكتور غيره فهو من خارج البلد من يافا أو حيفا ولكنه ليس جراحاً.
كان في دكاكين للسمانة، وملابس للناس والرجال (شراويل) قماش للخياطة، كثير منهم مسيحية مثل واحد اسمه سليم صليبا والزعدومي عنده دكاكين سمانة وعنده بابور زيت وطحين، بطح قمح، وجميع الحبوب (انا خلقت على أيام البابور موجود).
لكن الظروف كانت صعبة أيام الثورة، كان اليهود مدعومين، تعرضت البلد لقصف شديد معظم البيوت تهدمت، وجماعتنا المسيحية (كان القصف من جهتهم) وخوفهم الشديد، جعلهم يتركوا البلد، فقلت لأبي يجب أن تخرج (لأن الانكليز تساعد اليهود) ونحن نبيع رزقنا حتى نشتري بارودة، وصل ثمن البارودة الانكليزية 110 ليرات فلسطين، وأنا أخذت البارودة من العسكر، دفعوا لي 120 ليرة ولكن لم أوافق، وبعد ذلك أعطيتهم البارودة ولكن أحضروا لي بدلها عنها.
كان الوالد يعيش مع أمي وأخوتي، وأنا كنت متزوجة، خرجنا من البلد الى الناقورة صالح حسين بريش جدي أصله اساساً من الناقورة، وله أولاد ومنهم أبي، وله ابن توفي بتركيا إسمه نمر، وله أولاد بتركيا الان، يعني عمي الوحيد وعماتي توفوا.
وجئنا الى الناقورة مباشرة وجدتي والدة أبي اسمها خديجة المهدي من الناقورة.
إذا كانت الطريقة مفتوحة الى البصة اليوم، سأذهب لو كنت سأحبي على يداي وقدماي، أنا عندي رزق هناك... وعندي 5 بيوت ولي أرض 5-6 دونم، وغير الرزق الأخر..
أولادي بيعرفوا البصة، قلت لهم ذكرياتي، وعندما جاء داوود العلي عملت له مذكرات كبيرة، الوديان وأسمائها والآثار الكبيرة، فكتبتها ونسختها، ونظمت قصيدة ساعدته فيها وسجلت.
محمود أيوب رحمة الله عليه، أقول لحسين محمود أيوب وبهديه كل سلامي وتحياتي وأتمنى له الصحة والله يخليلوا أولاده وأنا بذكره بأيام والده ويعتبر نفسه إبني.